معظم الأجيال في عصرنا هذا لم تعش حتى اليوم سوى في عالم تنعم فيه السعودية بخيرات الطبيعة وثرواتها. إنتاج النفط وتصديره إلى البلدان الصناعية المتعطّشة للطاقة ـ عبر شراكات واتفاقات تبلورت منذ بدايات القرن الماضي ـ جعلا هذا البلد الذي يحمل اسم عشيرته الأولى محورياً في الشرق الأوسط والعالم.صحيح أن السعودية فشلت في معظم الأحيان في استثمار هذه الأفضلية لتحقيق قوة رفع سياسي إقليمياً ودولياً، إلا أن اقتصاد الحجم النفطي الذي تديره مكّنها أخيراً من اعتماد استراتيجية إقصائية بحقّ منتجي النفط الصخري في الولايات المتحدة.
فقد أثبتت خلال الأشهر القليلة الماضية أن اللاعبين الجدد في سوق النفط عليهم الانتظار قليلاً بعد قبل أن يلفظ ديناصور الطاقة أنفاسه الأخيرة. تطرد السعودية منافسيها عبر الحفاظ على مستويات الإنتاج المرتفعة؛ تُغرق السوق بملايين البراميل وتبقي الأسعار منخفضة لكي تُفلس الشركات الأميركية. وهي تنجح في الصمود معتمدة على احتياطاتها السخية التي راكمتها طوال فترة العقد الماضي الذي شهد مسيرة صعودية للنفط أوصلته إلى مستوى قياسي تاريخي قارب 150 دولاراً للبرميل الواحد.
غير أن السؤال الذي فرض نفسه في حمأة التطورات الأخيرة في سوق النفط وعلى مستوى الحراك الإقليمي من اليمن إلى سوريا وصولاً إلى لبنان، هو إلى أيّ مدى يُمكن أن تصمد المملكة؟
الجواب على ما يبدو ليس صعباً. بالاستناد إلى النمط المالي المسجل حالياً، يتوصّل معهد «التمويل الدولي»، في تقرير نشره أخيراً، إلى أنه نتيجة تراجع أسعار النفط إلى حدود 60 دولاراً للبرميل، ستُضطر السعودية إلى تمويل عجزها الذي سيعادل 15% من ناتجها المحلي الإجمالي، عبر سحب الأموال من احتياطها وعبر إصدار السندات للاقتراض من السوق.
يُقدّر خبراء المعهد أنه إذا موّلت السعودية عجزها بالتساوي من هذين المصدرين، فإن احتياطيها الذي تحفظه مؤسسة النقد السعودي، سيتراجع من أكثر من 732 مليار دولار مسجّلة في نهاية عام 2014 إلى 645 مليار دولار في نهاية عام 2016. كذلك سيرتفع معدل الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 12،2%.
المعطى الأخطر في هذا السياق هو أنه إذا استمرّ هذا النمط على اعتبار أن معدّل سعر برميل النفط يبلغ 53 دولاراً، فإن 90% من ذلك الاحتياطي سيتبخّر كلياً مع حلول عام 2020.
هكذا، فإن عصر النفط الرخيص الذي أطلقته السعودية بحربها على التكنولوجيا الأميركية ولاعبيها الجدد، قد يرتدّ عليها كلياً. وتتقاطع توقّعات معظم الخبراء الدوليين عند هذه النقطة المحورية للشرق الأوسط والعالم. يؤكّد خبراء البنك الدولي في تقريرهم الأخير عن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن المعاناة المالية هي ما ينتظر السعودية خلال المدى المتوسط، فـ«الفائض المالي الكبير الذي كانت تسجّله السعودية يتبخّر، ما يترك البلاد في عجوزات تفوق 10% خلال عام 2015 والأعوام اللاحقة».
السعودية ليست وحيدة في هذه المعاناة. فبلدان مجلس التعاون الخليجي مجتمعة قد تخسر هذا العام 215 مليار دولار تقريباً، أي ما يعادل 14% من ناتجها المحلي الكلي.
ولكن قياساً إلى حجم الاقتصاد، ستكون السعودية صاحبة ثاني أسوأ عجز، بعد سلطنة عمان، تُسجّله البلدان العربية من المحيط إلى الخليج (إضافة إلى إيران)، في عام 2015. وأيضاً في عام 2016، ستكون في الحالة الصعبة نفسها، هذه المرّة وراء الكويت.
إذاً السعودية ليست في وضع تُحسد عليه. هذا العام سينمو اقتصادها بنسبة 2،4%، أي دون ما يتوقعه البنك الدولي للبنان. يقول خبراء البنك إن السعودية شهدت «انتقالاً سلساً» للسلطة، «والانطباع العام هو أنه على الرغم من تغيّر القادة إلا أن السياسة الاقتصادية ستبقى نفسها».
ولكن هل الحفاظ على تلك السياسة الاقتصادية هو معطى جيد؟ قد تكون السعودية صاحبة أكبر اقتصاد عربي، غير أنها في المراتب الأخيرة لناحية إدارته. ولن يطول الأمر كثيراً على ما يبدو لتأكيد هذه المسألة.
4 تعليق
التعليقات
-
ممتاز... شكراً ب. ص.ممتاز... شكراً ب. ص.
-
تعودنا أن السعودية ليست مالكةتعودنا أن السعودية ليست مالكة القرار بنفطها وتعودنا أن الأمريكي هو من يقرر عنها ، والمقالات حول المواضيع ذات الصلة فسرت لنا الأمر بأنه أمر أمريكي للسعودي لتضييق الخناق على روسيا وإيران !! والمقال هنا يعيد لخبطة الأمر :) فهل يمكن للسعودية أن تقف بوجه أمريكا ( رغم أننا تعودنا على الغباء السعودية وقصر نظرها ) ولكن هل هي مستعدة لهذه الخسارة الهائلة من احتياطياتها المالية في الغد كي يراها الآخرون لاعبا مهما اليوم ، تبعية السعودية لأمريكا تجعلنا نقتنع بأن لاتقف بوجه أي طلب أمريكي بشأن تخفيض السعر لأنها أعجز من رد الطلب ولكن أن يخرج التفكير من عقول من يقررون في السعودية فلم نتعود عليه ! باقي المقالات قالت بأن الغاية كانت إيران وروسيا وهنا القول أن الغاية أمريكا نفسها ، بكل الأحوال الغرب وهو المستثمر الأكبر للطاقة هو المستفيد من فرق العملة والسعودية خاسرة مهما كان الهدف ، والعرب رابحون بطريقة أو بأخرى بهذه الحال فأي خسارة للسعودية هو مكسب كبير للعرب :)
-
توضيح النفط للزميل ب. ص.العزيز ب. ص. في المبدأ لا فرق بين الخام التقليدي والنفط الصخري سوى في طريقة الحفظ الطبيعية (الجيوب الصخرية في مقايل الآبار التقليدية) وفي اسلوب الاستخراج (التكسير والتنقيب الأفقي في مقابل الحفر التقليدي). السعودية يمكنها التحكم بالمعروض في السوق نظراً لهامش الانتاج الضخم الذي تتمتع به بعد تلبية الحاجات المحلية. وبالتالي تفضل تحمل مرحلة من الأسعار المنخفضة بهدف طرد المنافسين عوضا عن افساح المجال لهم للازدهار عند مستويات سعرية مرتفعة. طبعا هذه السياسة غير مستدامة، وعاجلا ام آجلا ستعود الشركات الاميركية بقوة الى اللعبة بعد عودة الجدوى الاقتصادية، ولذا ذكرت في المقال "الانفاس الاخيرة لديناصور الطاقة"؛ فحتى السعوديين انفسهم يطلبون التقنيات الأميركية الجديدة للتنقيب عن الغاز. الفكرة هي ان المملكة تريد ان يلعب الاخرون وفقاً للقواعد التقليدية في سوق الطاقة، وحتى اليوم تنجح في فرض ذلك على الجميع. عموماً السوق تشهد دوما ارتفاعا في الطلب على المدى الطويل في اطار توازن بين مستوى الاسعار وحجم الاستثمارات في الابار الجديدة ولذا فإن جدوى النفط الصخري ستعود لا محالة. أما روسيا فهي لاعب ثانوي في معادلة النفط نظراً لتعطشها للعملات الصعبة؛ مناورات الغاز الأوروبية تكفيها. أتمنى ان تكون محاولة التوضيح هذه مفيدة. سلام
-
أستاذ شقراني، ثمة نقطة لمأستاذ شقراني، ثمة نقطة لم أفهما... أو بالأحرى كنت أنتظر توضيح نقطة ولم يأتِ... لكن، استنتجت منطقياً أمراً من السياق، فهل يمكن تأكيد صحة الاستنتاج التالي؟ كما تقول في المقالة، خفّضت السعودية سعر برميل النفط (مع مستويات إنتاج مرتفعة) لحشر العاملين بالغاز الصخري (أو النفط الصخري الذي بدأ استخدامه في أميركا بشكل خاص وتقدمت الدراسات حول وجوده وتقديرات حجمه خصوصاً في الصين، الأميركيتين، بعض دول أوروبا وبعض دول شمال أفريقيا (الجزائر بشكل خاص وملفت)، الهند، إلخ... - وقد نشر مقالٌ عنه في مجلة علمية فرنسية قبل 15 سنة، أي عندما بدأ آنتاجه بشكل جدّي، خلاصته أنه سيكون مستقبل مصدر الطاقة في العالم على الرغم من أن النقاش حول ضرره البيئي وصعوبة استخراجه وغيرها الأمور، لم ينتهِ بعد)... إذاً، الواقع أن السعودية خفّضت السعر للهدف المذكور، وهذا ما سيؤدي إلى انهيارها اقتصادياً بسبب العجز الناتج عن فرق السعر... لكن، إذا اعتبرنا أنها استدركت هذا الخطر وعادت ورفعت سعر البرميل تفادياً للمشكلة (مع أو بدون تخفيض الانتاج)، ألن تقع في مشكلة أخرى تكمن في الكساد وفي أزمة تصريف إنتاجها الذي سيخف الطلب عليه لصالح النفط الصخري (خاصّةً أن العالم ذاهبٌ حتماً إلى مزيد من التطور في الدراسات حوله وفي شبكة وآليات إستخراجه)؟ ماذا عن روسيا؟ (التي يعتمد اقتصادها على الغاز الطبيعي بشكل كبير، فهي الأولى عالمياً) شكراً سلف للتوضيح زميلك في الأخبار ب. ص.